تزايد الانتحار- أزمة نفسية في صفوف الجيش الإسرائيلي في غزة.

المؤلف: د. عمار علي حسن08.25.2025
تزايد الانتحار- أزمة نفسية في صفوف الجيش الإسرائيلي في غزة.

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، شهد الجيش الإسرائيلي ارتفاعًا مذهلاً في حالات الانتحار، حيث أقدم أربعة وأربعون جنديًا على إنهاء حياتهم. ومما يثير القلق، تسارعت هذه الوتيرة المأساوية في الأيام العشرة الأخيرة، إذ انتحر ثلاثة جنود يائسين.

أحد هؤلاء الجنود كان من لواء "ناحال"، وقد شارك في القتال الضاري في غزة لمدة عام كامل. وبعد نقله إلى مرتفعات الجولان السورية المحتلة، لم يتمكن من التغلب على صدمة الحرب، فأنهى حياته المأساوية. أما الجندي الثاني، وهو من لواء "غولاني"، فقد أطلق النار على نفسه في قاعدة "سدي تيمان" الواقعة في صحراء النقب القاحلة، وذلك بعد أن خضع لتحقيق أدى إلى سحب سلاحه منه. وقبل أن يزهق الجندي الثالث روحه، عبّر لزملائه عن عذابه العميق ومعاناته الطويلة جراء الأهوال والفظائع التي شهدها أثناء الحرب الشرسة.

لقد تحوّل الانتحار في صفوف الجيش الإسرائيلي إلى ظاهرة مقلقة ومفجعة، وأصبح السبب الثاني الرئيسي لفقدان الجنود لحياتهم أثناء المعارك. ويأتي هذا في وقت يتكبد فيه الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة نتيجة الكمائن المحكمة والفخاخ المتطورة التي تنصبها المقاومة الفلسطينية الباسلة، التي تخوض "حرب عصابات" فعالة ضد قوات الاحتلال الغاشم. وإزاء هذه الظروف المروعة، يرفض العديد من الجنود العودة إلى القتال المحتدم في غزة، وقد قامت السلطات الإسرائيلية بسجن بعضهم بتهمة التمرد والعصيان.

يعاني جنود إسرائيليون كثيرون من اعتلالات نفسية عميقة، وذلك بسبب الخوف الشديد على حياتهم من جهة، ومن هول الأفعال الشنيعة التي ترتكبها أيديهم الملطخة بالدماء من قتل وتدمير شامل في غزة من جهة أخرى. ويتأثر بشكل خاص المحاربون القدامى، إذ يحتاج 75% منهم إلى دعم نفسي متخصص، بالإضافة إلى آلاف آخرين يتلقون العلاج النفسي المكثف من آثار اضطراب "ما بعد الصدمة" المدمر. وقد اضطر الجيش الإسرائيلي، في ظل هذه الأوضاع المأساوية، إلى توفير ما يقرب من ثمانمئة أخصائي نفسي لتقديم الدعم والعلاج اللازمين لهؤلاء الجنود المحطمين نفسيًا.

وتكشف الصحف الإسرائيلية النقاب عن عجز الحكومة الذريع عن فهم الحالة المعنوية المتدهورة للجنود، وعدم قدرتها على تلبية الطلبات المتزايدة للدعم النفسي. وقد لفتت هذه المسألة الخطيرة انتباه منظمة "كسر الصمت" للمحاربين القدامى، التي اتهمت الجيش الإسرائيلي بالتستر المتعمد على التجارب النفسية القاسية التي يعيشها الجنود والضباط.

وفي سياق متصل، اتهمت صحيفة "هآرتس" المرموقة القيادة العسكرية الإسرائيلية بأنها سجلت العديد من حالات الانتحار على أنها "حوادث عرضية مؤسفة"، بينما أطلق البعض على مواقع التواصل الاجتماعي في إسرائيل على المتضررين نفسيًا من أهوال الحرب لقب "ضحايا 7 أكتوبر/ تشرين الأول الصامتون".

وفي تقرير مؤلم نشره موقع "إنسانيد أوفر" الإيطالي، تحدث الجندي الاحتياطي في الجيش الإسرائيلي دانيئيل إدري عن صور الأجساد المتفحمة التي كانت تطارده في صحوه ومنامه، قبل أن يقدم على إضرام النار في جسده بالقرب من مدينة صفد أثناء مشاركته في الحرب في غزة ولبنان. وقد عبّر عن يأسه العميق في رسالة مؤثرة إلى أحد رفاقه قائلاً: "أخي، عقلي ينهار. لقد أصبحت خطرًا حقيقيًا، قنبلة موقوتة على وشك الانفجار".

واعترفت والدة الجندي الراحل بأن ابنها كان "يتعرض لعذاب داخلي شديد ينهش روحه، بسبب الذكريات الأليمة التي سكنت رأسه من ساحات الحرب المروعة، وعجزه التام عن التحرر من رائحة اللحم المحترق المزعجة وصور القتلى والمصابين المروعة، ما أفقده القدرة على النوم الهانئ، لا سيما أنه فقد صديقين عزيزين له في الحرب، وكانت مهمته المؤلمة تتمثل في نقل جثث رفاقه القتلى، ما ضاعف من معاناته النفسية".

وشاركتها الرأي والدة الجندي الاحتياطي المنتحر إليران مزراحي، الذي خدم في غزة لمدة ثمانية وسبعين يومًا فقط، حين قالت عن ابنها المكلوم: "لقد خرج جسديًا من غزة، لكن غزة لم تخرج أبدًا من قلبه وروحه".

ولم يقتصر الأمر المأساوي على انتحار الجنود فحسب، بل طال أيضًا الضباط رفيعي الرتب، ومن بينهم ضابط في الخدمة الدائمة أطلق النار على رأسه بعد أسبوعين فقط من انطلاق عملية "طوفان الأقصى"، وضابط آخر برتبة مقدم، وثالث برتبة رائد، ورابع كان يعمل طبيبًا في قوات الاحتياط، وقد اشتكى مرارًا وتكرارًا من عدم قدرته على الاستمرار في رؤية الأجساد المتفحمة والدماء المسفوكة.

تجعل هذه الظاهرة المقلقة الوضع في الجيش الإسرائيلي أكثر خطورة وعمقًا من أي وقت مضى. وتثير تساؤلات مشروعة حول فقدان العديد من جنوده وضباطه تدريجيًا للسمات الأساسية التي يجب أن تتوافر في شخصية المقاتل الحقيقي، مثل الثقة بالنفس، والشجاعة والإقدام، والإيمان الراسخ بعدالة القضية التي يحارب من أجلها.

كما تفتح هذه الظاهرة الباب واسعًا لمقارنة ما يجري للجنود الإسرائيليين بما دفع، عبر التاريخ الطويل للحروب، العديد من الجنود الآخرين إلى الانتحار، لأسباب متشابهة إلى حد كبير، ومنها الشعور القاتل بالهزيمة، أو عدم قدرتهم على تحقيق النصر المنشود، أو اقتناعهم بعدم جدوى الحرب برمتها، والخوف الشديد على حياتهم، أو الرهبة من الوقوع في الأسر، أو الإحساس العميق بانفصال القيادة العسكرية عن الظروف الصعبة في ميدان المعركة، أو تلقي الجنود أوامر مباشرة بارتكاب جرائم حرب بشعة، أو أفعال غير إنسانية، أو طول أمد الحرب دون ظهور أي أفق لنهاية الوجود الكابوسي في ساحة المعركة.

وهي ذات الأسباب التي دفعت مئات الجنود الألمان إلى الانتحار في نهاية الحرب العالمية الثانية المدمرة، ومئات الجنود الأمريكيين في العراق، إلى درجة أن وزارة الدفاع الأمريكية (US Department of Defense) أصدرت مذكرة رسمية اعترفت فيها بأن انتحار الجنود يمثل أحد أعقد المشكلات والتحديات التي تواجه الجيش الأمريكي. وتكرر الأمر المؤلم في صفوف الجنود الأمريكيين العائدين من الحرب الطويلة في أفغانستان.

وبشكل عام، تعزو الدراسات والتقارير المتخصصة أسباب الانتحار في صفوف الجيوش إلى اضطرابات ما بعد الصدمة النفسية، والاكتئاب الحاد، وتعاطي الكحول والمخدرات، والتعرض للسخرية والتنمر والتحرش الجنسي، بالإضافة إلى القلق الشديد والتاريخ المرضي لبعض الجنود الذين يستمتعون بإيذاء أنفسهم، فضلًا عن الشعور القاتل بتأنيب الضمير.

وهي مسألة جسدها بعمق الشاعر الأمريكي من أصل صربي تشارلز سيميك في سيرته الذاتية المؤثرة المعنونة بـ "ذبابة في الحساء" (A Fly in the Soup)، حين تساءل بذهول عما كان يشعر به الطيارون في الحرب العالمية الثانية، وهم يضغطون على الأزرار فتسقط القنابل المميتة على رؤوس المباني والناس الأبرياء وتحرق الأخضر واليابس.

وهناك أسباب أخرى خاصة بالحالة الإسرائيلية المأساوية، منها البيروقراطية العسكرية المتزايدة التي أصبحت أكثر صرامة وتعقيدًا في الحرب الأخيرة، والإهمال الشديد للجنود، والاستهتار بحياة الفرد المقاتل، وهي حالة جديدة على المجتمع الإسرائيلي، لا سيما في ظل شعور الجنود بأن الحكومة ليست معنية بجدية بإنقاذ حياة الأسرى المحتجزين في غزة، بعد أن أعلنت تطبيق بروتوكول "هانيبال" المثير للجدل منذ بداية الحرب.

وهناك أيضًا الضغوط المتواصلة التي يمارسها الضباط الميدانيون على جنودهم كي لا يبوحوا بأوجاعهم النفسية العميقة حتى لا يتسرب الإحباط واليأس إلى صفوف المقاتلين الآخرين. وكل من يخالف هذه الأوامر الصارمة يتم تحويله فورًا إلى المحاكمة العسكرية، وتوقيع غرامات باهظة على البعض، وتهديد آخرين بالسجن لفترات طويلة.

وهناك سبب جديد يتعلق بالجيش الإسرائيلي، يتحدث عنه بعض العسكريين هناك، وهو أن الجيش يضطر في ظل الظروف الراهنة إلى تجنيد أشخاص يعانون بالفعل من اضطرابات نفسية، لأن ضغط الحرب الشرسة لا يمنحه الوقت الكافي للتدقيق اللازم. وهناك خوف حقيقي من أن يؤدي الفحص الدقيق إلى استبعاد عدد كبير من الجنود المحتملين، ما قد يجعل الجيش، وبشكل تدريجي، بلا مقاتلين تقريبًا.

ولذا يتصرف قادة الجيش الإسرائيلي في الوقت الحالي وفق قاعدة مفادها: "نقاتل بمن يتوافر لدينا من الجنود"، لا سيما أن 15% من الجنود النظاميين الذين حاربوا في غزة وتلقوا العلاج النفسي اللازم رفضوا رفضًا قاطعًا العودة إلى القتال مرة أخرى. ولكن قيادة الجيش اتخذت قرارًا صادمًا بإعادة من يعانون من إعاقة نفسية تزيد نسبتها على 50% إلى الحرب، وهو موقف عبّر عنه أحد الضباط بمرارة قائلاً: "نحن بحاجة ماسة إلى أكبر عدد ممكن من البنادق. وسنتعامل مع العواقب الوخيمة لاحقًا".

ويساهم كل هذا في تفاقم الوضع النفسي والمعنوي الهش في صفوف الجيش الإسرائيلي. ويتوقع الخبراء المتخصصون في هذا المجال أن إسرائيل ستعاني من الحاجة إلى علاج ما لا يقل عن خمسين ألفًا من جنودها نفسيًا خلال السنوات التي ستعقب توقف الحرب. وهذا يعني ببساطة أن عدد المنتحرين سيزداد بشكل ملحوظ، سواء أثناء القتال المحتدم أو بعده.

ورغم أن الانتحار في صفوف الجيش الإسرائيلي ليس ظاهرة مستجدة، حيث انتحر حوالي 1230 جنديًا منذ حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، لأسباب نفسية مختلفة، فإن حرب "طوفان الأقصى" الأخيرة شهدت تحولًا وتغيرًا واضحًا في هذا الشأن.

ففي الماضي، كان الجنود يقدمون على الانتحار بعد انتهاء الحرب وتوقف العمليات القتالية، أما اليوم فإنهم ينتحرون أثناء سير المعارك واشتداد القتال، وهي مسألة لفتت انتباه يوسي تيفي بلز، رئيس "مركز أبحاث الانتحار والألم النفسي"، الذي علق قائلاً: "هذا الأمر كان مفاجئًا وصادمًا للغاية، فقد وقعت حالات الانتحار المأساوية خلال الأيام الأولى من القتال، وليس بعد انتهاء المعارك كما كان معهودًا في السابق".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة